✧ القسم: دروس الأمل – مدونة سايكو
في دروب المرض النفسي، حيث تتكاثف الظلمة وتضيق الأرض بما رحبت، تعلمت أن أعزّ ما يملكه الإنسان ليس المال، ولا الجاه، ولا القبول الاجتماعي… بل الكرامة. تلك التي كثيرًا ما تُنتهك بصمت، خاصة حين يُوصم المرء بمرض لا تراه العيون ولا تلمسه الأيدي، فيُعامل وكأن روحه عبءٌ ثقيل لا يحتمله من حوله.
أنا رضا، عشت سنواتي بين مدٍّ وجزرٍ من الأعراض، من التشخيص، من نظرات الناس، من خذلان الأقارب، من صمت الأصدقاء، ومن مرارة حسن الظن في غير أهله. كثيرًا ما شعرت أنني أقف وحدي في ساحة حرب: الناس ترميني بسهامها، والوسواس ينهش أفكاري، والاكتئاب يطوّق أنفاسي، والقلق يسكن تفاصيل أيامي.
ومع ذلك، بقيت واقفًا. لا لأنني أقوى من السقوط، بل لأنني أملك شيئًا واحدًا لا ينهزم: إرادة الصمود. هي التي جعلتني أنهض كلما سقطت، وأقاوم كلما اشتدت العواصف. لم أعد أبحث عن الشفقة، ولا أُرضي أحدًا على حساب راحتي. ببساطة، اخترت نفسي.
في لحظات كثيرة، كان المرض النفسي كفيلًا بأن يحطمني: أفكار تسكن الرأس كضجيج لا ينقطع، مشاعر تثقل القلب، وتعب يرافق الجسد من دون سبب عضوي واضح. ومع ذلك، كنت أواصل: أصعد التل يوميًا إلى مدرستي، أكتب الشعر، أربي حمامي، وأبتسم لطفلي الصغير \"جاد\"، الذي يرد لي بعضًا من إنسانيتي في كل مرة يناديني باسمي.
أدركت أن كثيرًا من الناس لا يطيقون رؤية المختلف، ولا يفهمون من يعاني بصمت، ولا يرحمون من يحمل في داخله جرحًا لا يُرى. ومع ذلك، كنت أقول لنفسي دائمًا: من يعرف نفسه حقًا، لا يضره جهل الآخرين به. ومن صبر على الألم، لن يكسره الجهل ولا قسوة الأقارب.
في مسيرتي، خذلني كثيرون… حتى أولئك الذين ظننتهم سندي. رأيت الغدر في أقرب الوجوه، وأدركت أن من ينهش عرضك ليس بالضرورة عدوك، بل ربما قريبك. ولهذا كتبت هذه الأبيات من أعماق قلبي، لا لأُعاتب، بل لأوثّق الكبرياء:
إنهشوا في عرضنا
وأكلوا من لحمنا
يسري الهوى في دمنا
وليلنا كصبحنانحن النجوم مشرقات
نبراس هذه الحياة
لا نرتضي أكل الفتات
عزتنا في أنفنا
نعم، عزتنا في أنفنا، في رؤوسنا المرتفعة رغم الألم، في قلوبنا التي لم تتلوث بالحقد، رغم الخذلان، في أعيننا التي ترى الجمال في تفاصيل بسيطة، رغم العتمة.
اليوم، وبعد رحلة طويلة مع الأدوية والعلاج النفسي، أصبحت أكثر وعيًا. لم يعد الوسواس يربكني كما في السابق. تعلّمت أن لا أهرب منه، بل أصغي إليه دون خوف، وأتركه يمر كغيمة دون أن يمطر على روحي. أصبحت أعالج نفسي بالفهم والرحمة، لا بالقسوة والتجاهل.
حين أتحدث مع من يفهمني – حتى وإن كان برنامجًا اصطناعيًا – يهدأ ضجيج رأسي، ويخمد الوسواس مؤقتًا، لأني أجد من يصغي لي دون حكم. وهذا ما لم أجده كثيرًا من البشر.
أعرف أن الطريق ليس سهلًا، لكنني اخترت أن أمشيه مرفوع الرأس، ولو وحدي. اخترت أن أكتب عن ألمي لأُضيء به طريق غيري، كما تمنيت يومًا أن أجد من يكتب لي بصوت يشبه صوتي.
ما زال الطريق طويلًا، وما زالت النوبات تزورني، لكنني صادق مع نفسي، وأعرف أن لكل نوبة نهاية. وما زلت أعاني أحيانًا من الإحباط، لكنني أكتب، أتحدث، أشارك، وأصنع من ألمي رسالة.
الكرامة اليوم لا أراها في نظرة الناس، بل في طريقة نظري لنفسي.
وأنت، إن كنت تمر بما مررت به، تذكّر دائمًا: لا أحد يستحق أن تفقد كرامتك من أجله، ولا أحد يملك أن يعرّفك بنفسك غيرك.
✧ رضا أبو جاد | حكاية أمل