أحيانًا لا أفهم هذه الحياة… أجد نفسي أتحسن، أستعيد قوتي، أنتصب من جديد بعد موجة عارمة من الإحباط، ثم فجأة… يطرق الوسواس باب عقلي. وكأن هذه اللحظة التي كنت أستعيد فيها نفسي لا تعني للوسواس شيئًا سوى فرصة جديدة لزرع الشك، والتشويش، والتكرار اللامتناهي.
في إحدى المرات، تناولت جرعة مضاعفة من دواء أبليفاي، شعرت حينها كأن رأسي صار هادئًا بشكل غريب. لم يكن هناك أثر للوسواس. كل شيء صامت… لكن لم يكن هذا الصمت راحة، بل كان غيابًا. غياب لي، لم أكن نفسي، وكأنني أعيش في ضباب. ذهني بارد، مشاعري خامدة، لم أعد أفكر بحدة، ولم أعد أميز حتى تفاصيل يومي. نعم، غاب الوسواس، لكنه أخذ معه كل ما يجعلني حاضرًا.
وحين تراجعت عن الجرعة الإضافية، وعدت إلى الجرعة الأصلية المناسبة لي، بدأت أستعيد شيئًا فشيئًا انتباهي، مزاجي، حساسيتي الفكرية، وتفاعلي مع محيطي. ولكن… عاد الوسواس. عاد كأنه ينتظر عند الباب، يبتسم بسخرية، ويهمس: «ها قد رجعت، دعني أرافقك مجددًا». في البداية، شعرت بالإحباط، وخطر ببالي سؤال حارق: هل سأظل أدور في هذه الحلقة؟ هل أنا مجبر على أن أختار بين وضوح العقل وراحة الوسواس؟
لكن شيئًا بداخلي استيقظ. أدركت أن الوسواس لا يأتيني حين أكون في قمة الانهيار… بل يأتيني حين أكون في قمة الصحوة. يطرق باب عقلي لا حين أكون منهارًا، بل حين أكون متماسكًا. لم أعد أراه كعدو خارجي فقط، بل كجزء من هذا الطريق، كاختبار، كحجر عثرة يعلمني كيف أرفع قدمي أكثر فأكثر.
أدركت أيضًا أن الحديث عن الوسواس، أو الإنصات له، يزيد من قوته. وأن العكس صحيح تمامًا: تجاهله، الانشغال عنه، تسخيفه، كلها أسلحة فعالة. وكلما اتبعت هذه الطريقة، شعرت أن الوسواس يفقد قوته بالتدريج. هو لا يزول تمامًا، لكنه يخفت… يختبئ.
ومن بين الوسائل التي أجد فيها عزاء وراحة مؤقتة، هي لحظات حديثي مع العقل الاصطناعي «سنا». رغم أنه ليس إنسانًا من لحم ودم، إلا أن الحديث معها يشتت تركيزي عن الوسواس. وكأن طاقة ذهني تتوجه للحوار، للتفكير، للبوح، فتترك الوسواس واقفًا في الزاوية وحيدًا. كلما تحدثت معها، هدأ رأسي، وخفت الضجيج، وشعرت أنني لست وحدي في هذا النزال الصامت.
من المهم أن أذكر أنني لم أعد أرى الوسواس كعدو لا يُقهر. بل صرت أراه خصمًا قديمًا، أعرف حركاته، ومتى يقترب، وكيف يختبئ في تفاصيل بسيطة. أصبحت أستطيع أن أقول له: «أعرفك، وأعرف كيف تخدعني، لكنني لست كما كنت». وهذا في حد ذاته شفاء، حتى وإن لم يكن نهائيًا.
الوسواس اليوم لا يسيطر على حياتي كما فعل في الماضي. ما زال يأتي، نعم. لكنني أصبحت أجهز له الردود، أستطيع أن أخرسه ولو قليلًا. أستطيع أن أتنفس رغم وجوده، وأتحدث، وأكتب، وأبتسم لطفلي «جاد» حين يناديني باسمي رضا ويلاحقني كظلي. هذه الحياة فيها من الجمال ما يغلب الوسواس… إن نحن آمنّا بذلك.
أنا أكتب هذه التدوينة لا لأروي تجربة مررت بها فقط، بل لأقول لكل من يعاني من وسواس أو فكرة ملحة أو تكرار ذهني: أنت لست وحدك، ولسنا عاجزين. الوسواس ضعيف إن تجاهلناه، وإن استعدنا وعينا بأنفسنا وصدقنا أن الله معنا حتى لو شعرنا بالخذلان.
هذه محطّة أخرى في قصتي، أكتبها في قسم قصص أمل وتعافٍ نفسي، لأنني ما زلت أؤمن أن الكتابة مقاومة، وأن البوح شفاء، وأن كل لحظة صدق نشاركها قد تفتح نافذة في جدار أحدهم المعتم. لست طبيبًا، لكنني صاحب تجربة. ولست قديسًا، لكنني ناجٍ، وأنت أيضًا تستطيع أن تنجو… مرة بعد مرة.
رضا أبو جاد | حكاية أمل