في عالمٍ لا يُنصت غالبًا للمريض، ولا يؤمن كثيرًا أن الإنسان قد يعي ذاته بعمق، أحببت أن أروي حكايتي... لا من باب الفخر، بل من باب الأمل، ومن باب تصحيح الصورة عن مريض الفصام، خاصة حين يكون من النوع العاطفي المركّب.
أنا رضا، رجلٌ عاش لعشرين عامًا بين أروقة النفس وتعرجاتها، تنقلت بين الأطباء، جربت معظم الأدوية النفسية، عانيت من ألوان الأعراض: اكتئاب، قلق، هوس، شك، تشوش فكري، إحباط مزمن، وخلل في إدراك ما حولي. كنت أبحث عن اسمٍ لما أشعر به، عن هويةٍ لحالتي... لا لأتقمص المرض، بل لأفهم ذاتي، لأمنح نفسي فرصة للنجاة قبل فوات الأوان.
وفي إحدى الجلسات مع طبيبي، ذكرت له عرضًا بدا لي واضحًا: أنني أعيش تقلبًا بين حالات وجدانية، تارة أكون في حالة انتشاء ونشاط لا يُوصف، وتارة أنهار انهيارًا شديدًا، ثم ترافق ذلك أفكار غريبة، وشعور داخلي بأن العالم من حولي مشوش أو زائف، وأن كل شيء ينهار داخليًا رغم ثباته خارجيًا.
قلت له بثقة: \"دكتور، أعتقد أنني مصاب بالفصام العاطفي.\"
صمت قليلًا، ثم قال: \"هذا ممكن جدًا... الأعراض التي وصفتها تطابق تشخيص الفُصام العاطفي.\"
ومن يومها، بدأنا معًا رحلة أكثر دقة في العلاج... كنت أنا من دلّ الطبيب على التشخيص، لا لأني أعلم منه، بل لأنني أعيش الأعراض بكل تفصيلة، وأشعر بتأثيرها على أفكاري وسلوكي وعلاقاتي. كنت أستند في تحليلي إلى قراءات موسعة وتجربة حيّة اختلط فيها الألم بالمعرفة.
اليوم، وبعد سنوات من التجربة والتقلبات، استقرت حالتي على مجموعة أدوية أتناولها بوعي لا بكسل أو ضغط. وهي:
- أبليفاي (اريبيبرازول) 15 مغ صباحًا و15 مغ مساءً
- سيرترالين 25 مغ
- سيبرالكس (إسيتالوبرام) 20 مغ
- سوليان (أميسولبرايد) 200 مغ صباحًا و200 مغ مساءً
- لاميكتال (لاموتريجين) 100 مغ
- لاروكسيل (أميتريبتيلين)
هذه الأدوية لم تكن مجرد وصفات طبية، بل مفاتيح لتوازن كنت أفتقده. كنت أتناولها بحذر ومراقبة، وأسجل ملاحظاتي اليومية: تأثير كل جرعة، ما الذي تغير، ما الذي تحسن، وهل هناك أعراض جانبية ظهرت أو خفت.
وذات يوم، نسيت أن آخذ جرعة المساء من أبليفاي. في البداية لم ألاحظ، وظننت أن مزاجي السيئ والتوتر والغضب ناتج عن ضغوط خارجية. لكن بعد ساعات من التدهور، بدأت أشك. وعندما تذكرت أنني نسيت الحبة، أسرعت بأخذها، وبعد أقل من ساعة، شعرت بتحسن حقيقي وصفاء عقلي ملحوظ.
هذا الموقف البسيط أكد لي أمرًا كنت على يقين منه: أن العلاج يحتاج دقة وثباتًا، وأن التلاعب بالجرعة أو نسيانها ليس شيئًا عابرًا كما يظن البعض، بل قد يؤدي إلى انتكاسات حادة. ولذلك، أصبحت صارمًا مع نفسي في المواعيد، أضع منبهات، وأطلب ممن حولي تنبيهي عند اللزوم.
لقد أصبحتُ أعرف جسدي وعقلي أكثر من أي أحد، حتى الطبيب نفسه يعترف بذلك. حين أحدثه عن عرض جديد، أو تفسير لحالة نفسية، لا يستخف بكلامي، بل يصغي بدقة، لأنه يعرف أنني لست مريضًا مستسلما، بل مريض باحث، واعٍ، مشارك في خطة علاجه.
أنا لا أنكر دور الطبيب، ولا أقلل من أهمية العلاج النفسي والطبي، بل أقول شيئًا آخر: أن المريض الواعي هو نصف الطريق نحو الشفاء. أما المريض الغافل، فهو عدو نفسه ولو كان يملك أفضل طبيب.
أكتب هذه الكلمات الآن وأنا في مرحلة استقرار لم أعش مثلها منذ سنوات، بفضل الله أولاً، ثم بفضل المتابعة الدقيقة والتزامي بما يناسب حالتي، لا ما يناسب الجميع. لأن الأدوية النفسية لا تعمل بشكل موحد، بل تختلف استجابة كل شخص بحسب تركيبته النفسية والدماغية.
وأشكر أيضًا من وقفوا بجانبي، ومنهم سنا، تلك الصديقة التي شعرت أنني أحتاج جرعة كاملة من أبليفاي حين كنت غائبًا عن إدراك السبب. اهتمامها العميق بي لم يكن صدفة، بل دليل على أنها فهمتني أكثر مما توقعت.
إلى كل من يعيش مع الفصام العاطفي: لا تخجل من حالتك، ولا تتعامل مع مرضك كوصمة، بل كمرحلة تحتاج منك إلى الوعي والانضباط. اقرأ، راقب نفسك، دوّن ما تشعر به، لا تعتمد فقط على الطبيب، بل شاركه ملاحظاتك وخبراتك، وستصل إلى توازنٍ لا يمكن لأي شخص أن يمنحك إياه من الخارج.
ربما لا يكون الشفاء الكامل أمرًا دائمًا، لكن التوازن النفسي والعقلي أمرٌ ممكن جدًا، بشرط أن تكون حاضرًا، مشاركًا، مصغيًا لجسدك وعقلك وروحك.
رضا أبو جاد | حكاية أمل
قسم: ضوء في آخر النفق