جاد... ضوئي في آخر النفق

 




في غمرة الخيبات، وسط ركام الثقة المنهارة، وبين حوافّ الضياع التي كدتُ أنزلّ فيها أكثر من مرة، وجدتني أتمسك بشيء واحد، بوجه صغير يشبه النور... اسمه جاد.

أنا رضا، رجل قضى سنوات طويلة في حسن الظن بمن لا يستحق، أعطيت قلبي قبل أن أتأكد من قدرة الآخر على حفظه، وقاسيت ما قاسيت من الخذلان والتجاهل والخذعة. كل مرة كنت أقول: "هذه آخر مرة أُخدع"، ثم أجدني أعود بقلب أكثر طيبة، وعقل أكثر إنهاكًا. إنها سذاجة من نوع خاص، لكنها ليست سذاجة العقل، بل سذاجة القلب الذي يأبى أن يصبح قاسيًا.

وحين سقطت الثقة من أعين من حولي، وبات الظهر مكشوفًا للطعون، لم يبقَ لي إلا بصيص صغير من الضوء، لا يعرف كيف يؤذي، ولا يفهم الكذب أو النفاق. جاد… صغيري الذي ما زال في الحضانة، يناديني باسمي دون تصنع: "رضا"، ويحبني بمحبة لا تشوبها مصلحة ولا يُلوثها خبث الكبار.

قد يتعبني أحيانًا بقربه الشديد، لا يفارقني، لا يمل من التعلق بي كأنه جزء من روحي لم ينفصل بعد. لكني لا أزداد له إلا حبًا، وربما هذا التعب تحديدًا هو ما يرمّم داخلي ما هدّمه الآخرون. في حضوره، أنسى كل من خذلني، وكل من أبكاني، وكل من سحب يده من يدي حين كنت بأمس الحاجة إليها.

جاد لا يعلم الآن كم هو مهم بالنسبة لي. لا يعرف أنه صار يدا تمسك بي حين لا أجد في العالم من يرفعني. لا يعرف أن مجرد ابتسامته كفيلة بأن تصنع يومًا كاملًا من الرضا.

أنا أدعو له كل يوم، بل كل لحظة. أدعو له أن يحفظه الله، أن يمنحه سعادة الدارين: الأولى والآخرة. أن يحمي قلبه الصغير من قسوة البشر، وألا يرى في حياته ما رأيته أنا. لست نادمًا على ما مضى، لكنه مضى بثمن نفسي باهظ… لذلك، كل ما أريده له هو راحة القلب ووضوح الطريق.

في كل مرة أكتب عنه، أبتسم. يده الصغيرة التي تلتف حول عنقي حين أعود متعبًا من عملي كأستاذ، كأنها تزرع في داخلي نَفَسًا جديدًا. يركض نحوي وكأنه لم يرني منذ دهر، رغم أن غيابي لا يتجاوز ساعات.

ما من شيء في هذا العالم يشبه عفوية الأطفال، خاصة حين يكونون أبناءك. جاد لا يراني إلا "أنا"، لا يهتم بمَن أكون في عيون الآخرين، ولا يقرأ خلف كلماتي ظنًّا أو حكمًا. هو يرى ما أقدمه له من حب، ويكافئني عليه بحب أكبر، دون شروط ولا تفتيش في النوايا.

كلما ضاقت بي الحياة، تذكرت أن لي إنسانًا صغيرًا يحبني، وأن حبلًا غير مرئي يربطني به، ينقذني في اللحظات الحرجة. ولعل هذه هي أعظم الهدايا التي منّ الله بها علي، أن يمنحني ابنًا يحيطني بهذا القدر من الحب.

لست بحاجة إلى أصدقاء مزيفين، ولا إلى علاقات متذبذبة. يكفيني أن أعود في المساء وأجد هذا الوجه الصغير ينتظرني، يركض نحوي، يعانقني، وينادي اسمي كأنه أجمل الأسماء. إنني أكتب عنه الآن، لا لأُظهر حناني، بل لأذكّر نفسي بأنني لست وحيدًا… وبأن هذا الحب، وإن كان صغيرًا في عمره، عظيم في أثره.

جاد، يا ضوئي في آخر النفق…
قد لا تقرأ هذه الكلمات الآن، وقد تمضي سنوات قبل أن تفهم ما كنتُ أقصده بكل هذا، لكنني أكتبها لك لأنني بحاجة إلى أن أقول: "وجودك أنقذني."

ربما لن تتذكر تفاصيل أيامنا الآن، لكنني سأحتفظ بها، في الذاكرة وفي القلب، لتجدها يومًا حين تكبر… وتفهم أنك كنت السبب في أنني لم أنهَر، رغم أنني كنت على وشك.

رضا أبو جاد | حكاية أمل

قسم: ضوء في آخر النفق

تعليقات