حين سكتت الوساوس: رحلة من لامكتال إلى تجرتول
في لحظة هدوء نادرة، جلست أتأمل ما تغيّر داخلي. شيء ما اختلف. تلك الوساوس التي كانت تذبحني يوميًا، وتلاحقني في كل زاوية، بدأت تضعف... ثم سكتت.
لطالما عانيت من الوسواس القهري المرتبط بالفصام الوجداني. كان شعورًا ثقيلًا، يتجسد في فكرة مستمرة: "الناس تتحدث عني. الجميع يراقبني. حتى نظرات المارة تحمل شيئًا ضدي." كنت أعلم أنها أفكار وسواسية، لكنها كانت تسيطر على يومي، تأكل طاقتي، وتسرق هدوئي.
في تلك الأيام، لم يكن سهلًا أن أشرح لأحد ماذا أشعر. لم يكن أحد يفهم كيف يمكن لفكرة غير حقيقية أن تصبح جحيمًا داخليًا حقيقيًا. كيف يمكن لصوت داخلي يهمس بالشك والريبة أن يُسقط ثقتي في من حولي، بل في نفسي.
بين لامكتال وتجرتول: دواءان، وتجربتان مختلفتان
لفترة طويلة، كنت أتناول دواء لامكتال (Lamotrigine)، وهو دواء معروف كمُثبّت مزاج، يُستخدم بشكل واسع في حالات الاكتئاب ثنائي القطب، وبعض أشكال الفصام الوجداني. كانت التجربة معه في بدايتها مستقرة. ساعدني على الخروج من نوبات الحزن والقلق الحاد. لكنه لم يُسكِت تلك الأفكار الوسواسية التي كانت تلاحقني.
ومع مرور الوقت، بدأت أشعر وكأن الدواء لا يكفي. بل في بعض الأيام، بدا لي أن القلق يزداد، وأن الوساوس صارت أكثر كثافة. لم يكن الأمر مجرد تخيُّل. كان شعورًا حقيقيًا يُثقل النفس ويُطفئ الروح.
بعد مراجعة الطبيب، ومع متابعة دقيقة لحالتي، تقرر إيقاف لامكتال تدريجيًا، والبدء بـدواء تجرتول (Tegretol)، أو ما يُعرف علميًا باسم كاربامازيبين. كانت لديّ بعض الشكوك، وتساؤلات كثيرة: هل سيجعلني هذا الدواء خاملًا؟ هل سيساعد فعلًا؟ هل ستتكرر خيبة الأمل؟
تجرتول: نقطة التحوّل
في الأيام الأولى من تناول تجرتول، شعرت بشيء مختلف. لم أستطع تسميته بدقة في البداية. لكن بعد أسبوع تقريبًا، لاحظت أول علامة واضحة: الوساوس التي كانت تشتعل في عقلي بدأت تخفت، ثم سكتت. لم تكن مجرد لحظة صمت، بل كانت راحة ممتدة، وكأن أحدهم أطفأ حريقًا ظل مشتعلًا لسنوات.
شعرت وكأن دماغي أصبح أكثر هدوءًا. تلك الأفكار التي كانت تقطع تركيزي وتملأني بالريبة، بدأت تتراجع. أحاديث الآخرين لم تعد تُفسَّر عندي وكأنها ضدي. لم أعد أشعر أنني مراقَب طوال الوقت. تجرتول كان كالمفتاح المناسب لقفل ظل مغلقًا طويلًا.
ما السبب العلمي وراء ذلك؟
تجرتول يعمل بطريقة مختلفة عن لامكتال. فهو لا يقتصر على تثبيت المزاج فقط، بل يُهدئ النشاط الكهربائي المفرط في الدماغ، خصوصًا في المناطق المرتبطة بالقلق والتفكير القهري، مثل الفص الجبهي واللوزة الدماغية.
بالإضافة إلى ذلك، يؤثر تجرتول على بعض النواقل العصبية مثل الدوبامين والنورأدرينالين، مما يُسهم في تقليل التوتر الذهني والانفعالي، ويساعد في حالات معقدة مثل حالتي، حيث تلتقي أعراض الفصام الوجداني مع الوسواس.
هذا لا يعني أن تجرتول هو الحل السحري للجميع، أو أنه دائمًا أفضل من لامكتال. لكن في حالتي، وبحسب تشخيص الطبيب، كان هو الخيار الأنسب، لأنه استهدف الأعراض التي كانت تعيق حياتي اليومية وتُهدد استقراري النفسي.
السكينة بعد العاصفة
لا أقول إنني تعافيت تمامًا. ولا أزعم أن الوسواس اختفى إلى الأبد. لكنني أشهد اليوم بفارق كبير، وكأنني انتقلت من العيش في دوامة، إلى الوقوف على أرض ثابتة. لم تعد الأفكار تطاردني بنفس الشراسة، ولم تعد نظرات الناس ترعبني كما كانت.
أشعر الآن أنني قادر على التفكير بهدوء، على النوم دون قلق، وعلى ممارسة يومي دون خوف من أن ينهار كل شيء فجأة. هذا التحسّن، وإن كان نسبيًا، يعني لي الكثير. لأنه بداية حياة جديدة… أو على الأقل، بداية أمل.
كلمة لكل من يعاني
إن كنت تمر بتجربة مشابهة، وتكافح مع الوسواس، أو تشعر أن الناس تتحدث عنك، أو أنك مراقَب دومًا… فأنا أفهمك. لأنني كنت هناك. وربما لا يزال في داخلي أثر من تلك المشاعر. لكن المهم هو ألا تفقد الأمل. لأن الأمل موجود، أحيانًا في تعديل بسيط في العلاج، أو في لحظة فهم من طبيب، أو في اعترافك لنفسك أنك تحتاج للمساعدة.
دوائي تغيّر… فتحسّنت. وربما يكون التغيير القادم في حياتك مختلفًا، لكنه يستحق الانتظار. لا تيأس من نفسك، ولا تتردد في الحديث. فإن كتمتَ وجعك، زاد… وإن شاركته، ربما خفّ.
رضا – مدونة سايكو