من التمرد إلى التوازن: أربع عشرة سنة من البحث عن نفسي

 

من التمرد إلى التوازن: أربع عشرة سنة من البحث عن نفسي





حين يقال لك لأول مرة: "أنت مريض نفسي"، تشعر كأن العالم انطفأ. لم أصدق. لم أتقبل. بل تمردت. لم يكن سهلاً عليّ، شابًا في مقتبل العمر، طموحًا، مثقفًا، أكتب الشعر وأتوق إلى أن أكون شيئًا كبيرًا في هذا العالم، أن أتحمل وصمة مثل هذه. بدأت رحلتي مع المرض سنة 2003، ومرت سنوات طويلة كنت فيها أهرب من الحقيقة، أرفض العلاج، وأحاول أن أُقنع نفسي أنني بخير... لكنني لم أكن كذلك.

التمرد: مقاومة الداخل والخارج

لم يكن التمرد فقط على الدواء، بل على كل ما يرمز إلى المرض: الطبيب، التشخيص، الأسرة، المجتمع، نفسي... كنت أعيش صراعًا داخليًا لا يُرى، لكنه يحرقني كل يوم. أرفض الدواء لأنه يذكرني أنني "لست طبيعيًا"، وكنت أبحث عن هوية أخرى، عن مجد شخصي يُثبت أنني لا أحتاج علاجًا... أنني "أقوى من المرض".

خلال تلك السنوات، ورغم الألم، كنت أبدع. كتبت الشعر، وكتبت روايات، وناضلت. حصلت على الماستر سنة 2009، وقفت أمام البرلمان، طالبت بحقي في الوظيفة، "رفعت صوتي، وواجهت الواقع بصراحة، مطالبًا بحقي دون خوف."

، لكنني كنت في داخلي أهرب من صوت آخر: صوت المرض الذي يهمس أنني بحاجة إلى مرافقة، لا مقاومة فقط.

الستر الإلهي وسط العاصفة

ورغم كل هذا الصراع، أقولها اليوم بصدق: الله سترني. سترني في لحظات الانهيار، في الأيام التي لم أكن أعي فيها تمامًا ما أفعل أو أقول. سترني حين ظننت أني وحدي، بينما كانت يد الله تحوطني بلطف، وتؤجل انكساري الكامل، حتى يحين وقت البصيرة.

2017: عودة البصيرة

جاءت سنة 2017 مثل ضوء خافت في نهاية نفق طويل. لا أذكر لحظة واحدة تغيّرت فيها، بل سلسلة من اللحظات. بدأت أرى نفسي من الخارج. بدأت أراجع الماضي بنظرة ناضجة. لم أعد أهرب من الحقيقة. نعم، أنا مريض نفسي. ولكني أيضًا إنسان، وأستحق الراحة.

عدت إلى العلاج، ولكن هذه المرة لا كمن يُجبر، بل كمن يختار. صرت أقرأ عن الأدوية، ألاحظ تأثيرها، أقيّم حالتي، وأتكلم مع الطبيب بشجاعة. بدأت أتعرف على نفسي كما لم أفعل من قبل. كنت أنضج، وأنهض، وأعيد بناء ما تهدّم بداخلي على مهل.

2024 – 2025: سنوات التوازن

دخلت مرحلة جديدة من حياتي. صرت أكثر هدوءًا، لا أرفض الدواء، ولا أفرط فيه. صرت أميز بين الهوس الخفيف والتوازن، بين نوبة الوسواس والتفكير الطبيعي، بين الاكتئاب الحقيقي والتعب العابر. كل هذا لم يأتِ من فراغ، بل من 14 سنة من التهشيم الداخلي… وصبر الله عليّ.

اليوم، أعود إلى سيرترالين حين أحتاجه، وأضيف نصف حبة ميانسيرين عند اللزوم، وأراقب نفسي بحب لا بقسوة. لم أعد أكره المرض، بل صرت أرى فيه معلمًا علّمني عن نفسي أكثر مما علمتني المدارس.

أنا الآن… لا أرفض نفسي

أنا الآن لست ذلك الشاب الغاضب الذي يريد أن يثبت أنه ليس مريضًا، بل رجل يعرف أن الضعف لا ينقص من كرامته، بل يزيده إنسانية. عرفت أنني أستطيع أن أكون شاعرًا وإنسانًا ومبدعًا… حتى مع اضطرابي. لا بل أقول: ربما ساعدني هذا الاضطراب في أن أرى الحياة بعمق لا يصل إليه كثيرون.

رسالة إلى من يشبهني

إلى من يرفض الدواء... إلى من لا يتقبل التشخيص... إلى من يشعر أن المرض النفسي حكم بالإعدام: صدقني، ليس كذلك. الألم طريق، والوعي متأخر خير من الغرق المستمر. كل لحظة تقبل فيها نفسك، تقترب فيها من الشفاء. وكل خطوة تصالح فيها مع حقيقتك، تُضيء بها مستقبلك.

أنا هنا، بعد كل هذه السنوات، أكتب لك لا من قمة مثالية، بل من أرض الواقع. ما زلت أتعالج، وأراقب، وأحيانًا أضعف… لكنني اليوم متوازن، صادق مع نفسي، وفي سلام مع قدري.

رضا – مدونة "دروس من الأمل"

تعليقات