لم أكن أبحث عن العيوب، ولم أكن مشغولًا بالظنون. كل ما كنت أريده هو الأمان… قليل من الصدق، قليل من الوفاء. لكن قلبي كان يُنبّهني، يرسل إشارات خفية، إحساسًا لا يُترجم بالكلمات، لكنه قوي بما يكفي ليوقظني في منتصف الليل.
كنت أشعر بشيء غريب في الأشخاص… نظرة، نبرة، تصرّف عابر، أو حتى صمت ثقيل. كنت ألاحظ تلك التغيرات الصغيرة التي لا يراها أحد، فأربطها مع بعضها، وأبدأ في التفكير: "هل هناك شيء؟ هل أنا أتوهم؟"
ثم أُسكت نفسي… خوفًا من أن أظلم أحدًا، أو أُتهم من جديد بالوسواس، بالمبالغة، بالحساسية الزائدة.
بين الفراسة والاتهام… فجوة يصعب شرحها
أحيانًا لا تحتاج إلى دليل قاطع لتشعر بالخطر. القلب يعرف، الروح تشعر، والوجدان يسبق المنطق أحيانًا. لكن حين تقول ما تشعر به، يبدأ مسلسل التشكيك: "تفسّر كثيرًا"، "تحلل بلا سبب"، "تضخم الأمور"، ثم تبدأ الاتهامات المعتادة: "أنت مريض"، "هذه وساوس"، "أنت حساس أكثر من اللازم".
وكلما أحببت أكثر، زاد وجعك. لأنك لا تريد أن تُسيء الظن بمن تحب، فتبدأ باتهام نفسك بدلًا من الآخرين. تتهم فراستك، إحساسك، ووعيك… حتى يصبح الشيء الصادق فيك وكأنه عيب، وكأن ما تراه بعين قلبك ليس حقيقة بل مرض.
لكن… هل كنت مخطئًا فعلًا؟
مع مرور الوقت، تتضح الصورة. تبدأ الأقنعة بالتساقط، وتظهر النوايا كما هي. وحينها، تشعر بمرارة مضاعفة: مرارة أنهم خذلوك، ومرارة أنك شككت بنفسك لأجلهم.
تقول في داخلك: "يا ليتني صدّقت قلبي من البداية، يا ليتني احترمت حدسي ولم أُطفئه كي أبدو طبيعيًا في نظرهم."
الفراسة ليست مرضًا… بل نعمة تحتاج إلى إنصاف
ليس كل شعور داخلي وسواسًا. وليس كل قراءة للمواقف تحليلًا زائدًا. هناك فراسة يزرعها الله في قلوب من أحبوه بصدق، واختبروا الأذى بعمق، فراسة لا تأتي من مرض، بل من نقاء.
لكن المجتمع يخاف مما لا يفهمه. لذا يسهل عليهم أن يقولوا "مجنون"، بدل أن يقولوا "صادق". أن يقولوا "موسوس"، بدل أن يعترفوا أنك ترى ما لا يجرؤون على مواجهته.
ضوء في آخر النفق: أن تثق بنفسك من جديد
اليوم، لم أعد أطفئ فراستي. صرت أصدقها، أحتضنها، وأقول لنفسي: "لقد كنتَ ترى بصدق… ولم تكن مخطئًا." لم أعد أبحث عن إثبات لسلامة عقلي لدى الناس، بل أصبحت أبحث عن سلامي الداخلي… عن تلك الطمأنينة التي تقول: "حتى لو كذّبوك، الله يعلم ما في قلبك."
وأنت أيضًا، إن شعرت بشيء، فلا تُسكت قلبك خشية أن يُساء فهمك. احترم ما تشعر به، خُذ وقتك في التحليل، لكن لا تخن نفسك تحت شعار "الواقعية". لأن تجاهل الحقيقة لا يصنع السلام… بل يؤجل الألم فقط.
أخيرًا…
الفراسة ليست تهمة. والوعي ليس مرضًا. وأن تُحب بصدق لا يعني أن تكون أعمى عن الحقيقة. اليوم، أنا أُحب بصدق، لكنني لا أتنازل عن قلبي ليرضى عني من لا يراني. أنا أسمع فراستي، أقدّرها، وأسير معها… لأنها أنقذتني كثيرًا، حين سكت الجميع.