في إحدى الليالي، نسيت تناول جرعة دوائي المعتادة. بدا الأمر بسيطًا في البداية، لكن مع مرور الساعات، بدأت أشعر بشيء ثقيل يزحف داخلي. لم يكن مجرد إرهاق عابر أو تقلب مزاجي مؤقت، بل كان شعورًا غريبًا يشبه الغشاوة التي تسدل ستارًا على الوعي. ضباب في الفكر، حزن غير مبرر، وشيء من "اللاشيء" يملأني حتى لم أعد أطيق الحديث أو التركيز أو حتى مجرد التفكير.
أدركت حينها مدى تأثير الدواء على استقراري النفسي، ليس فقط في تهدئة الهلاوس أو الوساوس، بل في توازن المزاج ذاته. وعندها عاد السؤال الذي طالما راودني: هل هذا طبيعي؟ هل كل من يعاني من الفصام يمر بتقلبات مزاجية؟ أم أنني في حالة مختلفة؟
الفصام ليس نوعًا واحدًا…
حين نسمع كلمة "فصام"، نتصور مرضًا واحدًا بنفس الأعراض ونفس الحدة. لكن الواقع أكثر تعقيدًا. الفصام يتنوع إلى عدة أنواع، ولكل نوع خصائصه وأعراضه. ما أعاني منه يُعرف بـالفصام الوجداني (Schizoaffective Disorder)، وهو نوع يجمع بين أعراض الفصام التقليدي (مثل الهلاوس، الضلالات، التشتت، وانفصال التفكير عن الواقع) وبين أعراض اضطراب المزاج (كالاكتئاب أو الهوس أو المزاج المتقلب).
وهذا ما يفسر لماذا يتغير مزاجي بشكل ملحوظ حين أتناول الدواء، ولماذا يؤثر غيابه ولو ليوم واحد بشكل مباشر على حالتي النفسية. لأن في حالتي، الدواء لا يُستخدم فقط لعلاج الأعراض الذهانية، بل أيضًا لتثبيت المزاج ومنع الانتكاسات العاطفية.
الفرق بين الفصام الوجداني والفصام التقليدي
الفصام التقليدي (Schizophrenia): يتسم بأعراض ذهانية بارزة مثل سماع أصوات غير موجودة، أو تبني أفكار غير واقعية، أو الانعزال الشديد. لكن في الغالب، لا يكون اضطراب المزاج جزءًا رئيسيًا من الصورة، وإن وُجد، فإنه يُعتبر عرضًا ثانويًا.
الفصام الوجداني (العاطفي): يجمع بين أعراض الذهان واضطرابات المزاج. أي أن المصاب قد يمر بفترات من الاكتئاب العميق أو نوبات هوس، إلى جانب الهلاوس أو الضلالات أو التشتت الذهني. وهذا ما يجعل العلاج مختلفًا، لأن الأدوية هنا تُختار بعناية لتغطي الجانبين: الذهني والعاطفي.
حين شعرت بتأثير الدواء…
في اليوم التالي، حين تناولت جرعة الأريبيبرازول (Abilify)، شعرت بشيء يشبه الراحة النفسية. كأنني كنت تائهًا في غابة مظلمة، وأحدهم أضاء لي طريق العودة. نعم، بكل بساطة: هذا هو شعوري بعد العودة إلى الدواء. وكأنني كنت في جسدٍ لا يشبهني، وعُدت إلى نفسي.
قلت مازحًا لصديق: "الدواء هذا يشبه الجوان، لكنه جوان رحيم. يضربك بلطف، ثم يضعك على قدميك مجددًا. الأول يُلهيك عن الألم ليقتلك بعد حين، أما الثاني، فيحتوي ألمك ويمنحك فرصة للتنفس من جديد".
وبمرور الوقت، أصبحت أعترف أن الدواء ليس عيبًا، ولا دليل ضعف. بل هو صديق، قد لا أحبّه كل الوقت، لكنه لا يخذلني حين أحتاجه. ومع كل جرعة، أشعر أني أستعيد شيئًا من نفسي، شيئًا من التوازن الذي فقدته في زحمة الوساوس والقلق والذبذبات العاطفية.
لماذا يجب أن نفرّق؟
كثير من الناس يخلطون بين الفصام والاكتئاب، أو بين الفصام والاضطراب ثنائي القطب. لكن الفهم الصحيح للتشخيص هو أول خطوة نحو التعافي. ليس كل من يشعر بالضياع أو يسمع أصواتًا يعاني من الفصام، وليس كل من تتقلب مشاعره يمر باضطراب مزاجي خطير. التشخيص الدقيق، المبني على تقييم مهني، هو ما يصنع الفارق في طريقة التعامل مع الحالة.
أما أنا، فبقدر ما أتألم حين تأتي النوبات، بقدر ما أتعلم منها. وبقدر ما أتعب من الأدوية، بقدر ما أقدّر أثرها حين تُصلح ما تفسده الكيميا المضطربة في عقلي.
رسالة أمل أخيرة
ليس عيبًا أن تحتاج إلى دواء لتعيش بسلام. وليس ضعفًا أن تتعافى بمساعدة. الحياة مليئة بالتقلبات، والمرض النفسي ليس وصمة، بل تجربة قاسية تحتاج إلى فهم، وتوازن، وصبر.
حين تحسّن الدواء مزاجي، لم أعد أخجل. بل شكرته، وشكرت الله الذي سخّره لي. فربما تكون "حبة" اليوم، هي السبب في أن أكتب، وأتنفس، وأشعر بنفسي كما أنا.
وختامًا، أقول لكل من يعاني بصمت: لا تخجل من ألمك، ولا تخف من العلاج. الطريق طويل، لكن الضوء موجود… فقط لا تنسَ أن تحمله معك.